دخول

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الرواية… العلمية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الرواية… العلمية


    الرواية العلمية


    يخيل للبعض أن العلوم الطبيعية التي تمخضت عن النهج العلمي التجريبي هي ذروة المعرفة البشرية، وأنها باتت الحكمَ على غيرها من المعارف، بل وهي التي تُصدِّق العقائد أو تكذّبها، وقد تمر الحياة على كثير من العلماء دون أن يعيشوا لحظة من صحوة حقيقية، وهم ينخرطون في دهاليز العلم المادي متفاعلين معه، ومستسلمين لكل المعلومات «العلمية» التي انغمست في أذهانهم عبر مسيرتهم العلمية، وهي التي تتحوّل مع مرور الزمن، ومع التدفق العلمي والإعلامي على عقول البشرية إلى ما يشبه اليقين، وهي التي تحوّل تعاطيهم معها إلى ما يشبه الإيمان، عبر التصديق الجازم الذي لا يتطرق إليه شك، رغم أنهم يدركون أن من ثوابت الطريقة العلمية: أن مخرجاتها قابلة للنقد والنقض والدحض. ومع كرّ الأيام وتكرار الكلام وتقليب الصفحات، تصبح تلك المعارف العلمية لدى غالبية العلماء ثابتًا أو مرجعًا عقليًّا لكل فكر، وأساسًا ذهنيًّا للحكم على الأفكار الأخرى؛ إذ من الصعب على كثير من العلماء أن يستشعروا بجدران ذلك «الصندوق» الذي وُضعوا أو وَضعوا أنفسهم فيه، فكيف بهم أن يحاولوا الخروج منه بتفكيرهم الناقد وإبداعهم الرائد! رغم أن «التفكير الناقد» و«الإبداع» باتا كلمتي السر للحركة العلمية العالمية. إذ إن ثمة سطوة للعلم كما للسياسة، ولصفحاته هيبة في نفوس البشر كما الأديان، ومن الصعب على الناس أن تفكّر بإعادة النظر بمخرجات العلم المفصلية أمام تلك الهيبة وذلك السلطان، وخصوصًا أن العلماء والهيئات العلمية تصبح أحيانًا قاسية جدًا في ردود أفعالها على من يحاول «إعادة النظر»، وكأنّها تُغيَّبُ عندها العقليةُ المنفتحة، وتنسى تَقَبُّلَ الرأي الآخر أمام أية محاولة للخروج من الصندوق.
    وأمام تلك الغفلة «العلمية» نطرح في أول الكلام سؤالًا تأسيسيًّا: هل يمكن أن يكون التاريخ العلمي للبشرية قد مرّر أباطيل «علمية» وحوّلها في الذاكرة الجمعية للبشرية إلى حقائق لا يمكن النقاش حولها؟ وهل يمكن أن تكون أذهاننا قد امتلأت بـ«الخزعبلات العلمية» من التي تكونت لها هالة عاطفية تجعل ممن يطرح أي تساؤل حولها محل نقد وقدح وردح؟

    هنا سؤال مصيري لا يقل أهمية عن تلك الأسئلة الوجودية التي تَطرقُ ذهنَ المفكر في بداية مشواره العقلي، والتي تكون الفاتحة لموقفه الديني من الوجود: من أين أتيت وإلى أين أمضي؟ لأن تلك المعلومات العلمية لم تكتف بطرح أجوبة عن تلك الأسئلة الوجودية، بل إن العلم قد أقحم نفسه في طرح نهج معرفي بديل للإجابة عن تلك الأسئلة الوجودية، وهو المنهج العلمي، في مقابل المنهج العقلي، وما يتمخض عنه من النهج النقلي الذي يؤكد العقل صدق النقل فيه. ولذلك فإن البحث في الموقف مما تُسمّى الحقائق العلمية لا يقل أهمية عن التفكير العقائدي، لأن المجالين قد تشابكا في المجالات المعرفية، وتعاركا في طريقة التفكير، وتنافسا على عقول البشرية وقلوبها، وخصوصًا في ما يتعلق بموقف الإنسان من الوجود وما حوله. وتبدو معالم هذا الصراع بين التصورات العلمية والأطروحات الدينية جلية في المناظرات والمؤلفات والوثائقيات، رغم محاولات كثير من علماء الطبيعة وعلماء الشريعة (وعلماء اللاهوت) إيجاد حالة من التصالح المعرفي، وفرض السِّلم بين العلمانية والدينية، عبر نهج التوفيق بين مخرجات العلم، وبين مظّنات النصوص الدينية ودلالاتها في الكتب السماوية، وخصوصًا بعدما تجاوزت أوروبا مرحلة الكبت الديني في عصورها الظلامية، وانفتحت على عصر النهضة الذي قام على «العلم»! ثم لحقتها ضمن ذلك المسار بقيةُ شعوب الأرض وأممها، ومنهم الأمة الإسلامية، التي رضخت تحت ضغط الغلبة العسكرية أمام الغزو الاستعماري إلى الشعور بالغلبة الفكرية أمام سلطان المعرفة الغربية.
    إن النظرة العامة للتصورات الدينية للوجود المادي تكشف عن تصوّر مبسّط جدًا للأرض والسماء ومصابيحها، قد لا يبدو في انسجام مع ذلك المشهد المعقد الذي ترسمه وكالات الفضاء العالمية لذلك الكون المتمدد في الزمان والمكان، والمركب في الكرات والحركة والدوران! رغم كل محاولات التوفيق وليّ أعناق النصوص… وقد تكشف تلك النظرة المقارنة عن تنافر ظاهر أو خفي، رغم الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ورغم دعوى أن الأديان السماوية نزلت على الناس خلال مرحلة متواضعة من المعرفة البشرية للكون، بينما هي دعوى لا تصمد أمام الوثائق الإغريقية والتفاسير الإسلامية للقرآن التي تناولت الأطروحات الحديثة نفسها حول شكل الأرض مثلًا، ونقلت شيئًا من الجدل المُزمن حول بعض تلك الأمور، مما لا زال العلم نفسه يردد صداه، كأنه جدل عابر للأزمان.
    ثم إن ذلك التصوير البسيط لمشهد الأرض والسماء وانبثاق الحياة في القرآن -وما يشبهه في الكتب السماوية- يوجد طمأنينة ذهنية وقلبية، قد تتزحزح أمام ذلك التدفق العلمي لذلك الكون المتمدد في الزمان والمكان، والمركّب في الكرات والحركة والدوران، ويصبح ذهن المؤمن بالدين السماوي محل هجوم ذهني لكثير من الأسئلة التي تقلقه كلّما حاول التوفيق بين مخرجات العلوم التي تصنَّفُ على أنها حقائق ضمن ذلك الصندوق العلمي، وبين دلالات النصوص الكونية التي تُعتبر عقائد في الأديان السماوية، وعبثًا يحاول الكثيرون أن يلبَسوا طاقية لكل وقت ومهمة، واحدة للعالم الطبيعي، وأخرى للمتدين بدينه السماوي الذي يطرح إجابات كونية قد لا تتجانس مع تلك المعلومات العلمية (أو الحقائق!). من هنا تبدأ مسيرة شقاء، شقاء أوّلُه نفسي يقلق الباحث المفكر، ومنتهاه بشري يقلق هذه البشرية، رغم محاولة المفكرين الغربيين تعريف العلمانية على أنها فصل الدين عن الحياة، فربما من الضروري العودة إلى البحث في تعريفها الأصلي. ونطرح أسئلة استهلالية للتفكير الذاتي:

    - هل ترى أن التصور العلمي لتركيب المادة ومكونات الذرة وسلوكها هو حقيقة لا تقبل الجدل؟ - هل تؤمن بأن أقدام الأمريكان قد وطئت سطح القمر حقًّا؟ - هل انتهى علم البشر إلى أن شكل الأرض مكوّر بيضاوي أم هل تصح نظرية الأرض المسطحة؟

    - هل انبثق الوجود المادي من نقطة متناهية في الصغر عبر الانفجار الكوني العظيم وأدى إلى الكون الفسيح المتمدد؟

    - هل تطورت الحياة من خلية بسيطة إلى إنسان «جبّار» يحلّق في الفراغ الكوني ويجوب آفاق السماوات والأرض؟

    - هل تعاني الأرض حقًّا من أزمة الاحتباس الحراري التي تهدد مستقبلها وديمومتها أم هي قضية مفتعلة لغايات سياسية؟

    وأمام هذه السيل الجارف من التساؤلات العلمية الوجودية وما يلحق بها، يُلحّ على الذهن تساؤل عام: هل يمكن أن نكون قد حملنا خزعبلات علمية خلال حشرِنا داخل الصندوق العلمي؟ وهل يمكن أن نكون قد خضعنا لأجندات سياسية وحضارية قادتنا إلى ما نحن عليه الآن من معرفة علمية كادت أن تكون غير خاضعة للنقاش؟ وضمن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة العلمية المصيرية، نتساءل عن طريق المعرفة التي تتولد عنها تلك الإجابات، وعن مستوى القناعة بها، من حيث التصديق بها حد اليقين الذي لا يتزحزح والتسليم بها في ما يشبه «الإيمان» وهو التصديق الجازم! أو الشك العلمي؟
    ونتساءل أيضًا حول «التفكير الناقد» الذي يختبر المعلومات، ويميز الحقائق عن الأباطيل، ثم حول مستويات التصديق بتلك المعارف حسب تصنيف العلم نفسه ما بين حقيقة ونظرية وفرضية، ضمن هذا المسار المعرفي حول الشك العلمي.

    تبدأ العملية العقلية لدى الإنسان ببحثِه عن إجابات لأسئلة تُثار في ذهنه حول واقع معين يتعرض له، وذلك من أجل فهمه أو تفسيره، أو توقّع ما بعده أو تسخيره لخدمة الإنسان، أو اتخاذ موقف منه أو حَوْله. وهكذا يشتغل الذهن في عملية التفكير للإجابة على الأسئلة الملحّة، وتكون الإجابة هي نتيجة البحث، وثمة بواعث متعددة للأسئلة التي تتفجر في ذهن الإنسان، للحصول على نتائج معينة، في مجالات علمية وثقافية وحضارية وسياسية.. إلخ.

    ومن أجل أن نتخذ موقفا من المعارف العلمية، لا بد أن نجيب على السؤال الأساس حول طريق المعرفة: هل يمكن أن يكون التفكير العلمي هو أساس المعارف البشرية؟ أم هل ثمة تفكيرٌ عام وتفكير علمي للوصول إلى المعرفة؟

    أما طريقة التفكير الأساسية العامة فهي تتم عبر الإحساس بالواقع الذي يتعرض له الإنسان ويبحث فيه، ومن ثم يتم نقل تلك الإحساسات إلى دماغ الإنسان، ومعالجتها فيه: تحليلًا وربطًا بما لديه من معارف ومعلومات سابقة، إلى أن يتم توليد نتيجة معرفية حول ذلك الواقع، وتكون تلك النتيجة هي الفكر الناشئ في ذهن الإنسان.

    أي أن عملية التفكير تتم بربط الإحساسات الواردة إلى دماغ الإنسان مع المعلومات المخزنة في ذهنه ربطًا تحليليًا، ثم الخروج بنتيجة أو فكرة معينة تمثل معرفة في عقل الإنسان تضاف إلى سجل معارفه.

    وهذه الكيفية العامة للوصول للمعرفة كانت لدى الإنسان منذ بداية الخلق، منذ أن علّم الله سبحانه آدمَ الأسماءَ كلَها، ثم عرض عليه وقائع معينة فأجاب آدمُ حولها ربطًا بما تعلمه من خالقه، ومنذ أن لاحظ قابيل كيف أن الغراب يبحث في الأرض، فولّد في عقله معرفة دفن الميّت.. وهي كذلك منذ أن يُولد الإنسان، فيلمس النار، ثم يدرك أنها تحرق، فتؤلم؛ فيبتعد عنها. وهذه الطريقة العقلية مستمرة حتى يومنا هذا دون تغيير، وهي تسمّى الطريقة العقلية، لا الأسلوب العقلي، وما يتغير أو يتطور فيها هو أساليبها وتفريعاتها، لا أساسها القائم على ربط الإحساسات بالوقائع التي يواجهها الإنسان مع المعارف المخزنة في ذاكرته المعرفية. ومن هنا انبثق التفكير العلمي كأسلوب متفرع عنها.

    والتفكير العلمي محصور في الوقائع المادية الملموسة التي تخضع للتجربة، وهو المسمّى بالمنهج العلمي، وهو يستخدم نفس طريقة التفكير العام القائمة على ربط الإحساسات بالوقائع مع المعلومات السابقة، ولكنّ ما يميّزه هو أن الوقائع هي تجارب علمية أو ملاحظات علمية للمحيط الطبيعي للإنسان.

    ولذلك فالتفكير العلمي هو فرع عن أصل الطريقة العقلية في تحصيل المعرفة، ولا يمكن أن يكون أساس توليد المعرفة البشرية، لأنه محصور في التجربة والملاحظة العلمية، بينما النشاط العقلي مفتوح على كل صنوف الإحساسات التي يتلقاها الإنسان… ولا شك إن الوقائع التي يصادفها الإنسان متعددة ومشعبة، منها ما يتعلق بالعلم المادي وتكون التجربة والملاحظة طريقة الوصول إليه، ومنها يتعلق بالثقافة أو الغيب أو بالمسائل العقلية والفكرية التي لا يكون العلم طريقا لها. ومن الخطأ الفاحش أن يدّعي بعض الكتّاب أن البحث العلمي هو أساس التفكير لكل إنسان! وخصوصًا أن البحث العلمي هو نشاط معرفي لفئة علماء الطبيعة دون غيرهم من البشر. وهو لا ينطبق إلا على المحسوسات المادية التي تخضع للتجربة والملاحظة العلمية ضمن منهجية خاصة (وما ألحق بها من معارف ملموسة)، أما عقل الإنسان فهو يشتغل في أمور لا تخضع للتجربة ولا الملاحظة إيمانًا بها أو إنكارًا، كالموقف من التصديق بكتاب سماوي أو حدث تاريخي، أو صلاحية قانون معين. وقد بدأ الخلط بين المجال العقلي والمجال العلمي عندما اعتبر العلماء الغربيون أن التفكير العلمي هو أساس كل معرفة، مما يمكن أن يكون قد فتح بابا لدخول الخزعبلات العلمية إلى المعرفة البشرية تحت سلطان الهيمنة المعرفية للعلم، خصوصا عندما مدّ العلم مجاله خارج البحث في المحسوسات المادية وصار يضع الفرضيات لأصل الوجود الغائب عن إحساسنا مثل نشأة الكون، وذلك بعدما أغلق (أو أنكر) باب بحث العقائد على أساس عقلي مجرد، حيث لا تخضع للتجريب والمنهج العلمي. من هنا كان لزاما على الباحث في تمييز العلم وفرز مخرجاته ما بين الحقائق والأباطيل أن يميّز أولا العلم الطبيعي عن غيره من المجالات المعرفية، وأن يميز التفكير العلمي عن التفكير العام للبشر. وخلاصة التمييز بين العلم والفكر الإنساني أن التعريفات الصحيحة للعلم (الاتجاه الصارم في التعريف) تقضي أن مجـال العلم محصورٌ في المادة ولا يتعدّاها إلى ما لا يمكن قياسه أو ملاحظته، ولذلك تخرج من العلم كل المعارف الغائبة عن الإحساس بها أو بآثارها، وينحصر المجهود العلمي في فهم الطبيعة المادية عن طريق ملاحظة الظواهر الطبيعية، أو إجراء التجربة عليها من خلال تقليدها بتركيب أنظمـة ممثلة لها في المختبرات تحت ظروف معيـنة، تتم فيها دراسة الأنظمة الطبيعية على مستوى مصغّر وقابل للقياس في المختبرات، مع إمكانية التحكم بشروط التجارب، لدراسة تأثير مختلف العوامل، ولذلك تخرج من العلم المعارف التي يكتسبها الإنسان بأساليب أخرى، مثل: العقائد، والتشريعات، والتاريخ، والآداب… ولا يمكن أن يكون العلم طريقًا للمعرفة فيها، أو حكمًا على مخرجاتها.

    وعندما يجيب أيٌ من الناس على الأسئلة العلمية الجوهرية التي طرحنها في أول الكلام، ويصدّق بالجواب إلى حد اليقين الذي لا يتزحزح، ويتعامل مع تلك الأطروحات العلمية على أنها حقائق راسخة، فهو مؤمن بالعلم إيمانًا راسخًا، وخصوصًا إذا لم يخطر بباله أن يشك بأي من تلك المعارف العلمية. وهنا نسأل كيف تكوّن لديه ذلك الإيمان؟ هل وصل إليه عن غير طريق الرواية؟ تلك الرواية التي يتلقاها عبر الوثائقيات العلمية أو المجلات العلمية المحكمة أو الكتب المدرسية والجامعية! قد يتبادر لذهن البعض أن البحث العلمي هو طريق المعرفة لتلك الأسئلة العلمية الوجودية، وأن طريق المعرفة العلمية هو التجريب والملاحظة. ولكن هذا الجواب غير دقيق، لئلا نقول غير صحيح؛ إذ إن البحث العلمي هو طريق الإجابة للباحث نفسه، أما بقية الناس ممن يتلقون منه الجواب كنتيجة لبحثه، فليسوا ممن توصلوا لتلك المعرفة عبر البحث العلمي إطلاقًا، بل هم يتسلمون الإجابة من الباحث بعدما ينشرها، ومن ثم تتناقلتها الكتب العلمية والبرامج الوثائقية. والناس في الغالب لا يختبرون صحة تلك المعلومات عبر إعادة التجربة، أو الملاحظة، ولذلك لا يمكن لغير الباحث أن يدّعي أنه أثبت أيّا من المعارف العلمية التي يحملها عبر المنهج العلمي أو من خلال البحث العلمي وأدواته (مثل التجربة والرصد)، إلا باحثًا آخر يتبعه من خلال إعادة التجربة (reproducibility)، وهذا أمر نادر الحدوث. ولكن الفرد العادي أو الدارس والقارئ يتلقاها ممن وصل إليها (أو ادّعاها)، وممن نقلها عنه في الكتب العلمية والمنهجية، دون أن يستوثق من صحتها. ومن باب الموضوعية، نودّ أن نُبرز أن ثمة جانبًا من المعرفة العلمية هو قابلٌ للاختبار المباشر من قبل الناس العاديين، عبر الحس المباشر والملاحظة والتجارب البسيطة، مثل أن معدن النحاس يوصل الحرارة والكهرباء وأن الماء يتبخر إذا وصل لحالة الغليان… وفي مثل هذه الحالات يمكن أن نعتبر أن طريق تحصيل تلك المعرفة يتجاوز حد تلقي المعرفة العلمية من أصحابها (عبر الرواية) إلى طريق التحقق منها عبر اختبارها المباشر، وفي هذه الحالات يختلف هذا التلقي المعرفي عن تلقي الرواية.. ولكنه محدود أمام الكم الهائل من المعرفة العلمية، وصعب الممارسة فيما يتعلق بالأسئلة الوجودية التي أثرناها ضمن هذا المسار المعرفي. وأمّا ما قد يخطر في البال هنا حول التحكيم العلمي للأبحاث قبل نشرها، فهو عملية مراجعة (ذهنية – غيبية) للإجراءات البحثية وللتفسيرات والاستنتاجات للأوراق العلمية، والتأكد من أصالتها وعدم تكرارها، وليس تحققًا من صدق الرواية أو اختبارًا مخبريًا لصحة التجارب ونتائجها. ولذلك فمما لا شك فيه أن جُل المعلومات العلمية الجوهرية، المتعلقة بالوجود الكوني وأصل الحياة، ليست في متناول آحاد الناس لاختبارها المباشر، وللتحقق من صحتها، حيث أن التجهيزات اللازمة لاختبار تلك المعلومات العلمية والتحقق من صحتها (المدّعاة) ليست في متناول الأفراد، وإنما هي محصورة في الحكومات وفي المؤسسات الضخمة (مثل وكالات الفضاء الدولية). هذه الاستحالة الواقعية للتحقق من صحة المعلومات العلمية من قبل الناس العاديين تعيدهم حتما إلى طريق تلقي المعرفة (النقلي) عن من ادّعى أنه اختبر صحتها. وكلمة (ادّعى) هنا، ليست من باب التكذيب بكل ما يصدر عن تلك الجهات، وإنما من باب وصف الواقع النقلي لتلك المعلومات العلمية، ولأن التحقق من صحة المعلومة مرهون بصدق الناقل، ومتوقّف على التأكّد من صحة إجراءاته البحثية، وصحة تفسيراته واستنتاجاته المبنية على ملاحظاته، وفي هذه الحالات: ما الفرق بين تلقي المعرفة العلمية وتلقي المعرفة الدينية وتناقل ثقافات الشعوب؟ وكيف يختلف نهج دراسة العلوم (الكونية) عن نهج دراسة الأديان والثقافات الشعبية طالما أن المجالين يستندان في النهاية إلى الرواية النقلية، وطالما يتوجب فيهما على الدارس أن يصدّق الناقل للمعرفة؟ وأمام هذه الحقيقة، يبرز السؤال المفصلي: لماذا ثمة محاولات استعلائية في الأطروحات العلمية عند من يعتبرون أن طريق العلم يأتي في مقابل طريق الرواية النقلية؟ ولماذا يمارس كثيرٌ من المنظّرين حالة من الفوقية على علماء الدين (وثقافات الأمم عموما) ممن يعتبرون أن الرواية هي طريق المعرفة الدينية فقط؟
    إن مجمل الناس يتلقّون الأطروحات الوجودية-العلمية كراوية ينقلها إليهم العلماء، الذين يضعون نظرياتها، ويدّعون أنهم اختبروا صحتها من خلال التجربة أو الملاحظة.

    وبالطبع، لا يتمكن الأفراد (ولا الباحثون من خارج تلك الأطر الدولية المسيّجة) من إعادة تلك التجربة أو الملاحظة الكونية (التي تتطلب تجهيزات فلكية ليست في متناولهم)، ولذلك ليس أمامهم إلا التلقي (النقلي) لتلك الروايات العلمية عن نشأة الأرض والكون والحياة، وشكل الأرض، وغيرها من المعارف العلمية التي يستحيل على الإنسان العادي أن يختبر صحتها. لذلك لا نبالغ إذا قلنا أن الطريق النقلي (أو الرواية) هو مصدر جُل المعرفة البشرية التي تنتشر بين الناس، سواء ما تعلق منها بالعلم أو ما تعلق بالأديان والثقافات، وهي ضمن سياق ما قالوا، وما رووا. ومن المعروف أن المعرفة الدينية الإسلامية ارتبطت بمعجزة للتحقق من صدق الراوي – صلى الله عليه وسلم – في مجال العقائد، ومن ثم أسست الثقافة الإسلامية علم الرواية، وكوّنت سجّلات التحقق من صدق الرواة في التفاصيل الفرعية (الأحاديث النبوية)، وقد أبدعت الأمة الإسلامية علم الجرح والتعديل للتحقق من صدق الرواة، للمعرفة الدينية. فأين هو النهج المقابل لعلم الجرج والتعديل في التحقق من الرواية العلمية مثلا لأولئك العلماء الذين ادعوا أنهم هبطوا على سطح القمر؟ ولأولئك العلماء الذين يدعون أنهم ينقلون إلينا صورا للمشاهد الكونية السماوية؟ ولشكل الأرض؟ وما إلى ذلك من معلومات علمية؟

    وأمام هذه التساؤلات التشكيكية: يصبح من الملّح على العقلاء أن يفكروا بالخروج من جدران ذلك الصندوق العلمي، الذي وُضعنا فيه، وأن يتسألوا عن مصداقية الراوي (العلمي)، وعن صحة روايته العلمية، وعدم الرضى بمنهج التسليم للرواية العلمية التي تدّعي أنها نتاج العلم (الذي لم نختبره) وأنها نتائج العقل البشري (وإن ناقضت أسسه)! وثمة مثال عملي على نوعية الرواية العلمية وتحدّيها لقدراتنا على اختبارها، وهو هبوط الأمريكان على سطح القمر وعودتهم سالمين غانمين: هل يخطر على بال كثير من العلماء أن يتساءلوا حول صدق الراوي؟ أو أن يتحققوا من صحة تلك الرواية العلمية؟ والأغرب من ذلك أن كثيرًا من العلماء المصدقين بتلك الرواية الأمريكية يرفضون نهج الرواية كطريق معرفي! وهذا تناقض فكري لدى من يريد من الناس التسليم بكل تفاصيل الرواية العلمية مع أنها ليست قابلة للاختبار، ولم يخضع ناقلها لعلم الجرح والتعديل للتحقق من صدقه وعدالته كراوٍ! بل وحتى عندما يرفض رواتها التعاطي مع طلب التحقق من صدق الرواية، كما في التسجيل المنتشر على (يوتيوب) حول رفض رواد الفضاء الأمريكان التعاطي مع طلب القسم على كتابهم الديني أنهم وطئوا سطح القمر. وهنا نجدد التفكير بنهج الإجابة على الأسئلة الوجودية التي أثرناها ضمن هذا المسار، والتي تتعلق بأطروحات غائبة عن إحساسنا المباشر، ونحن لا نتمكن من إخضاعها للتجربة ولا للملاحظة العلمية من قِبلنا، كناس تلقيناها عن غيرنا، فيكون طريقها بالنسبة لنا ضمن نطاق التفكير العلمي؟ وإذا كانت كذلك، ألا يتوجب علينا حينها أن نُخضع إجاباتها العلمية التي يطرحها علماء الطبيعة للتفكير الناقد الذي يميز الحقائق عن الأباطيل.


  • #2
    رد: الرواية… العلمية

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    احسنتم في هذه الافاضة شيخنا الجليل .. مباركة صحوة الفكر في عالم متغير عن خلق الله كثيرا وفي مثلهم قال ربنا { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ } بل اصبح العلم المعاصر (ند لـ الله) والناس يحبونه حبا جما { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ } حتى تم الحجر على العقيدة في مناسكها فقط اما ما يأتي بعد المناسك فقد اصبح متاهة فكر على ناصية علمية متأرجحة بين الفساد والصلاح (المفتعل) كما في الاتصالات حتى بات صلاح مقومات التحضر لا تفي فساد تلك المقومات فـ (ملئت الارض ظلما وجورا) نراها في كبائر الفساد مثل الكارثة البيئية ونراها صغائر الممارسات في (كاسة لبن) او قنينة حليب او في بيضة دجاجه فانفلتت اجساد البشر بظاهر سوء صحي منتشر في كل الارجاء تحت مسمى (امراض العصر) وكان ذلك متوارث من جيل الاباء الذين احتظنوا العلم الحديث وجدانا وتطبيقا فقتلونا شر قتلة وصدق الله في قرءانه

    { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ
    سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } (سورة الأَنعام 140)

    خسران اليوم واضح مبين ولا يحتاج الى فكر متألق بل يحتاج الى فكر (واعي) يعي الحقيقه من خلال الايدلوجيه العلمية المعاصرة التي فرضت علينا فرضا اجباريا بقوة سلطوية القانون !!


    ايدلوجية العلم المعاصر


    لا زال اسلام اليوم يتعامل مع احلام السلطه في كرسي السلطنه ونسي المسلم سلطانيته على نفسه في النفور من سوء الحضاره وتراه يحمل السلاح ويهاجم الناس وهو يأكل مأكلا حضاريا ويلبس ملبسا حضاريا ويشرب ويستطبب بدواء معاصر وكل ذلك من شيطنة نظم الحضاره الا انه يحلم بسلطنة اسلاميه وينسى سلطان نفسه على نفسه قربة لله فنحن نعيش (دين المناسك) وعن تطبيقات الدين غافلون

    السلام عليكم

    قلمي يأبى أن تكون ولايته لغير الله
    قلمي يأبى أن تكون ولايته للتأريخ
    قلمي يأبى أن تكون ولايته لغير الله

    قلمي يأبى أن تكون ولايته للتأريخ

    تعليق

    الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
    يعمل...
    X